أحزان مصر.. ورواية اسمها حسني

كتب , عبدالله بشارة
2011/02/06 10:41 م

كنت في مصر منذ ثلاثة أسابيع حيث قابلت عدداً من الأصدقاء، أصحاب الخبرة منذ أيام الأمم المتحدة، وسارت الأحاديث بيننا عن شؤون مصر، أبرزها شكوى عملية التزوير الأخيرة في الانتخابات، وقد تمت بشكل قبيح وبدائي ومكشوف، وتركت مرارة في القلوب الصافية، وصارت سلاحاً لدى المتربصين، لكن لم يكن أحد يتوقع الانفجار، بمن فيهم خصوم الرئيس الذين سعوا للتأثير في مسار الانفجار تجاه مصالحهم، وهذا متوقع، ففي السياسة لا يتوافر المنطق، ويتضاءل العقل، ويطغى التشويه وتنتشر الغوغائية، وتنحسر فرصة الوقوف للتقييم فالهدف الفوز مهما كانت التضحيات والخسائر.
جاء حسني مبارك الى سدة الحكم ليوقف الخلل الذي تمكن من مصر منذ وفاة الملك فؤاد، فحكم فاروق كان شداً وتطاحناً بين السياسيين والأحزاب، اختفى خلاله الاستقرار السياسي، وجاء حكم العسكريين بمزيج من الشعارات الصاعدة والمغامرات الطائشة، وانتهت فترة عبدالناصر بكارثة مروعة، وأخرج السادات مصر من قبضة الاحتلال وأرجعها الى مكانها المتوارث، وانتهى بمأساة اغريقية غير متوقعة.
جاء مبارك رجل الاستقرار والاتزان والتهدئة، أعاد مصر الى ينابيعها المعروفة في التاريخ، ثقلها ومكانتها وحكمتها، وحافظ على وقارها، وأبعدها عن العثرات وحماها من المغامرات، وسيجها من الانقلابات، وعادت مصر سيدة مجتمع بأناقة التعقل وسلوك الهيبة، وفتح النوافذ ليدخل اليها الفكر الحديث ووسع مساحات الحرية، وشجع المبادرات وتبنى الحوارات، لم يكن القمع من طباعه، ولم يكن النهب من أخلاقه، وأخلص لمستلزمات التنمية وطغى عليه حبه للبسطاء والفلاحين والمساكين.
وفي الخارج بنى لمصر مكانة تتميز بالصدق والوضوح وأسس صداقات مع كل الاتجاهات شرقاً وغرباً، في أفريقيا وآسيا، وترابط مع أوروبا سياسياً واقتصادياً، وشيد التداخل الاقتصادي مع الولايات المتحدة، وأحب أهل الخليج وتمكن من إزالة كل رواسب الشك والحذر التي خلفها نظام عبدالناصر، وترابط مع مجلس التعاون، وكان حكيم فلسطين، مرحباً بالقيادة الفلسطينية، أعطاها تجاربه وأخلص لها بنصائحه، وشجعها على الاعتدال، وحثها على القرار الصعب المفيد.
أتى بالخبرات والاستثمارات من الخارج وتبنى المبادرات وأهم من ذلك كله خلق ثقة العالم بمصر، بنظامها ومؤسساتها ومستقبلها.
سمعته يتحدث وتحدثت معه وإليه، وجدته إنساناً بسيطاً متواضعاً صاحب نكتة، متشرباً بمصريته ومعتزاً بتراثه، وكل همه حول المصريين وحياتهم.
نحن في الكويت مدينون له، كان صاحب مبادئ لم يهتز بالإغراء، ورجل مواقف لم يتأثر بالضغط، ولم يذعن للرجاءات والتوسلات، كان يحكي لقيادات الخليج عن تآمر مجلس التعاون العربي على الخليج ومصر، وتحدث عن الهمس بين الثلاثي صدام والملك حسين والرئيس اليمني، في جلسات القمم للمجلس العربي، كانوا يتهامسون بعيداً عنه تأييداً للرئيس صدام حسين ضد الكويت، ولم يشركوه في الجلسات المريبة.
في اليوم الأول للغزو التقى وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وسعى كل من الأردن واليمن وفلسطين والعراق لتأجيل النظر في مشروع قرار قدمه وفد الكويت، وحاول الثلاثي التعيس التسويف، ويعلن مندوب العراق «سعدون حمادي» بأن الكويت لن تعود ولو انطبقت السماء على الأرض، والخير قادم لمصر وللعرب عبر صندوق من عوائد النفط، ويتصدى له الوزير المصري الكفء عصمت عبدالمجيد مع مرافعة قانونية سياسية، ويصوت مع القرار الكويتي أربع عشرة دولة، ويتكهرب مزاج العراق والأردن واليمن وتوابعهم، كل ذلك لوقفة الرئيس حسني مبارك الذي استقبل في الرابع من اغسطس في الاسكندرية الرئيس اليمني الذاهب الى بغداد ويسمع الرئيس حسني مبارك توسلات بنسيان الكويت وطوي صفحتها والنظر الى الخير القادم.
ثم يأتي العاشر من أغسطس في القمة العربية، ويتعثر الآخرون أمام وقفته ونصرته للحق، ويرسل جيشه مع التحالف الدولي، وتنتصر الكويت وحلفاؤها، ويرتفع الرئيس حسني مبارك في مقاييس الرجال وقيم المبادئ ونظافة القيادة.
هذه رواية حسني مبارك سجلها تاريخ ثلاثة عقود، لم تكن إنجازات الرجل اعتيادية، كانت مبهرة في مجالها الداخلي والخارجي، وشيد منها موقفاً بارزاً لمصر يتسم بالجدية والصدق.
صحيح أن هناك أخطاء ارتكبت، أبرزها التزوير، وجمود قيادة المؤسسات مثل رئاسة مجلس الشعب وأمانة الحزب وفقدانهما القدرة على الإبداع، وفساد في الأجهزة وتنامي الكسل والمحسوبية، بسبب غياب قنوات التعبير الحر، لكن ذلك لا يتفق مع طوفان الإحباط الذي استوطن ميدان التحرير، والإحباط مصدره الفقر، في بلد لا يمكن ان يطعم ثمانين مليوناً، وتألمت لانسداد القيم واختفاء الوفاء لرجل بقامة عالية، يتعرض الى إهانات وصيحات وطلبات وممازحات وأشياء أخرى واطية، من داخل دواليب الذين كانوا يهتفون له بالأمس القريب، والذين تنكروا للإنجازات وتجاهلوا فضيلة الاستقرار والاطمئنان التي أدخلها حسني مبارك الى مصر، بعد العواصف المدمرة التي قام بها مغامرو الأمس القريب.
واذا تفهمت حجم الغضب الداخلي من الفقراء والمحرومين واليائسين، فلا يمكن تجاهل الضغوط الأمريكية على الرئيس، أكبر حليف لواشنطن، وأصدقهم معها، وهي ممارسة غير طبيعية، منها دعوة للرئيس ليذهب، وأين يذهب رجل بمكانته وإنجازاته، ولا أفهم النصائح التي تتوالى على الرئيس مبارك من الذين بيوتهم من زجاج، فرئيس وزراء تركيا يحث الرئيس على تلبية مطالب الشعب، بينما يتجاهل مطالبات أكثر من عشرة ملايين كردي-تركي يريدون الاحتفاظ بالهوية والثقافة، وهل معقول أن تتجدد الثقة في واشنطن بعد هذا الموقف السلبي المتنكر؟ لكن الرئيس حسني مبارك يدرك أكثر منا بأن السياسة غدارة لا وفاء فيها..
أظهر الرئيس في معالجته للأزمة البطء الثقيل، فكان أولى ان يقوم منذ اليوم الأول بإصلاحات جوهرية، قبلها فيما بعد، فالوقت لا يسمح بالانتظار، فلا مكان للتردد لاتخاذ القرار الصعب في الأزمات، ولقد تردد الرئيس كثيرا فكانت الحصيلة لصالح الذين يتربصون ويراقبون تصرفاته ويحسبونها بدقة المتربص، وعذر الرئيس أنه يخاف من المجهول ويخشى على مصر من مفاجآت تعصرها، ولذلك أبقى على صحافة مصر مقيدة، فجريدة «الأهرام» مثل «برافدا»، لا تنبش ولا تكشف، كل ذلك خشية الاضطرابات الداخلية والاهتزازات الاجتماعية، ولا جدال بأن المبالغة في الخوف وتحاشي الغلو لم يأت في صالحه فحجبت عنه الحقائق المزعجة.
ومع كل ذلك، اذا غاب الرئيس مبارك ستغيب أشياء كثيرة معه، ستغيب الثقة بالاستقرار، وسيتلاشى الإيمان بدور المؤسسات، وستعود مصر الى ساحة الشجار والمنافسات والمناكفات بين أحزابها وتجمعاتها، وستنسحب أسواق العالم عنها، وسيعود الشك الى سلوكياتها، وسيراقب البعيد والقريب التموجات في مساراتها، وسيدفع كثيرون من الذين تجرؤوا على شتم الرئيس ثمناً لغيابه، وستذهب معه هيبة الاستقرار التي جلبها، وعلى أهلها أن يتذكروا الماضي القريب، عندما كانت مصر حلبة صراعات بين أحزاب بائسة وجنرالات بحصيلة خائبة.
مصر أدماها عبدالناصر، وعالجها السادات، ورعاها حسني مبارك…


عبدالله بشارة
رئيس المركز الدبلوماسي للدراسات

مشكور يا غالى

-------------------------

مواضيع هامة لاستخدام المنتدى

شرح لوحة تحكم العضو فى منتديات بحيرة العالم

مواضيع هامة فى كتابة المواضيع

شرح عمل جميع أزرار نافذة الارسال

استمبات وضع المواضيع فى بحيرة العالم

موسوعة فواصل بحيرة العالم التى تجعلك مميز فى وضع مواضيعك



منتديات بحيرة العالم كل ما تبحث عنة تجدة فى مكان واحد

WORLD LAKE | منتديات بحيرة العالم | افلام عربي | افلام اجنبي | افلام
هندى | افلام ممنوعة من العرض | افلام كرتون | برامج | مسلسلات | مسرحيات
افلام اجنبى للكبار فقط | اغانى عربى | اغانى اجنبى | شعبى | كليبات | موبيلات
العاب | mp3 | صور النجوم والفنانين

http://www.world-lake.com