طيور الجنة
العمر : 29 رقم العضوية : 10079 عدد المشاركات : 5097 نقاط النشاط : 12534 التقييم : 315 الجنس : من : وسام البحيرة :
| موضوع: هنا تجد أجمل المقالات لأئمة الأدب الحديث 16/12/2009, 11:12 am | |
| هذه مشاركة أردت بها الارتقاء بأساليبنا وطريقة تفكيرنا وعرضنا لما نحس به ونشعر ، وهي عبارة عن أجمل ما كتب في العصر الحديث ، وهي دعوة لكل من عنده مقال لأئمة البيان في عصر الثورة الأدبية الحديثة فليرقمه هنا وله منا دعوة صادقة ، وإني أحتسب هذا العمل لوجه الله لا أريد من أحد جزاء ولا شكورا ومن أراد الإفادة منه على أي وجه كان فله ذلك شريطة أن يدعو لنا بظهر الغيب . __________________________________________________ _____________
ولنستفتح بالحبيب الرافعي :
__________________________________________________ ____________
مدرسة الثلاثين يوماً
[align=justify]لم أقرأ لأحد قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمته، أما منفعته للجسم، وأنه نوع من الطب له، وباب من السياسة في تدبيره، فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك. وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبة تؤخذ في كل سنة مرة، لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم، ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملة على استمرار الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدل النفس على تغيّر الحوادث وتبدلها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق. من معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن، حقائق غير معروفة لكل زمن، فيجلّيها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في متاهته وحيرته، فيشغب على التاريخ وأهله مستخفاً بالأديان، ويذهب يتتبع الحقائق، ويستعصي في فنون المعرفة، ليستخلص من بين كفر وإيمان، ديناً طبيعياً سائغاً، يتناول الحياة أول ما يتناول فيضبطها بأسرار العلم، ويوجهها بالعلم إلى غايتها الصحيحة ويضاعف قواها بأساليبه الطبيعية، ليحقق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمها المذاهب الاجتماعية ولم يهتد إليها مذهب منها ولا قاربها، فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بين أيدي علمائها: لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها: تبدأ من حيث تبدأ، ثم لا تنتهي إلا إلى حيث تبدأ.
يضطرب الاشتراكيون في أوروبا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه، ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهب كتب ورسائل، ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاماً عملياً من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة، فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضاً ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئاً. كما يتساوى الناس جميعاً في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم، وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه عليه من استطاع.
فقر إجباريّ يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.
ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا، وإنما يختلفون ببطونهم وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة، فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض. وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة، مدَّ البطن مدّه من قوى الهضم فلم يبق ولم يذر.
ومن ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء: ليس لجميعهم إلا شعور واحد وحسّ واحد وطبيعة واحدة، ويحكم الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه، فيمسك حواشيه العصبية في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثة من دخينة.
وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة ويدعو إليها، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق، وهي تلك الفكرة التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته، ومن هذين (الاطمئنان والمساواة) يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني، وإذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقي هذا المذهب كله عبثاً من العبث في محاولة جعل التاريخ الإنسانيّ تاريخاً لا طبيعة له.
من ق واعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السرّ الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق، في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة، فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث، فهما طريقتان، كما ترى، مبصرة وعمياء، وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.
ومتى تحققت رحمة الجائع الغنيّ للجائع الفقير أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسيّ على المادة، فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول "أعطني" ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يواسي المبتلى من كان في مثل بلائه.
أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة، ليحل في محله تاريخ النفس، وأنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال النفس للجسم، وأعمال الجسم للنفس، كأنه الشهر الصحيّ الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لإحداث الترميم العصبيّ في الجسم، ولعلّ ذلك آت من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنسانيّ وبين القمر منذ يكون هلالاَ إلى أن يدخل في المحاق، إذ تنتفخ العروق وتربو في النص الأول من الشهر، كأنها في (مدّ) من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة، ثم يراجعها (الجزر) في النصف الثاني حتى لكأن للدم إضاءة وظلاماً، وإذا ثبت أن للقمر أثراً في الأمراض العصبية وفي مدّ الدم وجزره فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصوم شهراً قمرياً دون غيره. وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو –مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها- إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماويّ في التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر.
وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهو عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي الذي يدرّب الصائم على أن يتمنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته ويبقيه مصراً على الامتناع، متهيئاً له بعزيمته، صابراً عليه بأخلاق الصبر، مزاولاً في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة، ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرة مارة مرورها ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق، فانظر في أي قانون من القوانين وفي أي أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فرضت فرضاً لتربية الشعب ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها وملابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءاً من عمل الإنسان، لا خيالاً يمرّ برأسه مرّاً.
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مذعنة لفكرة، منقادة للوازع النفسيّ فيه، مصرّفة بالحسّ الديني المسيطر على النفس ومشاعرها؟
أما والله لو عمَّ هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعاً، لآل معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عملية مدة هذا الشهر بطوله، فيهبط كل رجل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها، ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه –لا في الكتب- معاني الصبر والثبات والإرادة وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان، فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة.
شهر هو أيام قلبية في الزمن، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي، فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السموّ، يتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو، وما أجمل وأبدع أن تظهر الحياة في العالم كله –ولو يوماً واحداً- حاملة في يدها السبحة! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة؟
إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس، وتطهر الاجتماع من خسائس العقل الماديّ، وردّ هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين والمحررة من القوانين في باطنها –إلى قانون من باطنها نفسه- يطهر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معاني إنسانيتها، ويهذب من زياداتها ويحذف كثيراً من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق، إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفِكر الأخرى، والنفس في هذا الشهر محتسبة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بناءها من ذلك ما استطاعت.
هذا على الحقيقة ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها، ولهو والله أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه. وعجيب جد اً أمر هذا الشهر الذي يدّخر فيه الجسم من قواه المعنوية فيودعها مصرف روحانيته، ليجد منها عند الشدائد مدد الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة. عجيب جداً أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة كفائدة 8.3% فكأنه يسجّل في أعصاب المؤمن حساب قوته وربحه فله في كل سنة زيادة 8.3 من قوته المعنوية الروحانية.
وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدّخر هذه القوة وتوفرها، لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سرّ أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن الأسلحة والعتاد والذخيرة. كل ما ذ كرته في هذا البحث من فلسفة الصوم فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة (كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها من معنى "التقوى" أما أنا فأولتها من "الاتّقاء" فبالصوم يتّقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألاّ يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة، ويتّقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان: يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
وبالصوم يتّقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإنما ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفَه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع والأخلاق فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي.
وكل ما شرحناه فهو اتّقاء ضرر لجلب منفعة، واتّقاء رذيلة لجلب فضيلة وبهذا التأويل تتجه الآية الكريمة جهة فلسفية عالية، لا يأتي البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل من لفظها، ويتوجه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة، يتّقي بها المجتمع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه: "قانون البطن".
ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسمّاك "مدرسة الثلاثين يوماً
| |
|
طيور الجنة
العمر : 29 رقم العضوية : 10079 عدد المشاركات : 5097 نقاط النشاط : 12534 التقييم : 315 الجنس : من : وسام البحيرة :
| |
طيور الجنة
العمر : 29 رقم العضوية : 10079 عدد المشاركات : 5097 نقاط النشاط : 12534 التقييم : 315 الجنس : من : وسام البحيرة :
| |
طيور الجنة
العمر : 29 رقم العضوية : 10079 عدد المشاركات : 5097 نقاط النشاط : 12534 التقييم : 315 الجنس : من : وسام البحيرة :
| موضوع: رد: هنا تجد أجمل المقالات لأئمة الأدب الحديث 16/12/2009, 11:16 am | |
| الطفولة المعذبة
[align=justify]في الأقوال السائرة أن الفقير كلما طلب من الله قرشا أعطاه كرشا ، وفي ذلك حكمة للعليم الحكيم تستسر دلائلها على الفطن المحدودة ، فإن قوام العيش ونظام الدنيا منوطان بالسعي المرهق والعمل المهين ، وهذان لا يقوم بهما إلا الكثرة ، ولا يحفز عليهما غير الحاجة . والغني المترف يحسب أن يديه لم تخلقا إلا لصرف النقود وقطف الخدود ورفع الكأس ، فمثله كمثل السبع من الوحش والطير : يهلك ولا ينتج ويدمر ولا يعمر . فكان من صلاح الأرض أن يقل نسله كما يقل نسل الأسوج والنمور ، ويكثر نسل الفقير كما يكثر نسل الضأن والبقر . ولكن حكمة الله ضاعت في غفلة الناس ، فبغى الغني على الفقير حتى اصبح – وهو مصدر الإنتاج في النسل والحرث –مفدوحا بحمله فلا ينهض ، ومكدودا بعمله فلا يستطيع . ثم نبا كوخه الجديب الضيق عن بنيه فدرجوا في أفاريز الشوارع وزوايا الطرق وعليهم هلاهل من أخلاق الثياب تهتكت على الصدور والجوانب .يستندون الأكف بالسؤال أو يستدرون الجيوب بالسرقة ، أو يأكلون ما طرح الناس من فضلات الطعام في المزابل . هؤلاء الأطفال المشردون هم الذين تراهم يطوفون طوال النهار وثلثي الليل على القهوات والحانات كما تطوف الكلاب والهررة على دكاكين الجزارة ومطاعم العامة وهمهم أن يصيبوا ما يسد الرمق ويمسك الحياة ، فإذا أغلقت القهوات وهجعت المدينة تساقطوا من السغوب واللغوب على العتبات وفي الحنايا وتحت الجدر ، فيقضون آخر الليل يتداخل بعضهم في بعض كما تتداخل خراف القطيع إذا عصفت الريح أو قرس البرد . هؤلاء الأطفال المهملون هم الذين يستغل ذكاءهم تجار الرذيلة وسماسرة الجريمة ، يسلطونهم على القلوب البريئة والجيوب الآمنة ، فيسلبونها العفة والمال ، ثم لا يكون نصيبهم من هذه الثمار المحرمة إلا الخوف والجوع والأذى والمطاردة !! يغرون الصبيان بالشر ، ويوزعون المخدر في السر ، ويسرقون السابلة بالحيلة ، ويستجدون الجلاس بالرحمة ويجمعون الأعقاب من الطرق ، وكل أولئك لطغمة من المتعطلين يتعقبونهم بعين النسر من بعيد ، حتى إذا أخذوا ما معهم تركوهم لأهوال الليل ، فإذا خشوا منهم نفارا أو فرارا كدسوهم في أقباء المنازل المهجورة ، فلا تدركهم عين الشرطة ولا تنالهم رعاية البر ، ولا أدري كيف سالت على قلمي كلمة البر هنا ، وهي لو كانت في لغة الناس لما كان كل هذا !! إن سادتنا المترفون ليأنفون أن تقع أعينهم على هذا القبح ، وأن تدنو أثوابهم من هذا القذر ، فهم ينهرونهم كما ينهرون الكلاب ، ويذبونهم كما يذبون الذباب . ويفورون غضبا على الحكومة أن تسمح لهذه الحشرات أن تدب على الطرق المغسولة أو تحوم حول الموائد المزدانة ! شقَّ الله هذه الأشداق المنفوخة ياسادة ! إن هؤلاء الأطفال الذين يحملون العلب بالأصباغ ، أذكى من أطفالكم الذين يحملون القماطر بالكتب . وإن عباقرة العالم في الأدب والفن والعلم والحكم قد ولدوا كهؤلاء في مهاد اليتم والعدم ، ونشأوا في حجور الألم والفاقة ، فاضطرهم الشقاء الباكر أن يعرفوا أن لهم أذهانا للتفكير وعقولا للتدبير ، وأيديا للعمل ففكروا ثم قدروا ثم عملوا ، فكان من اثرهم هذه الدنيا ، ومن سيرهم هذا التقدم ، أما أبناؤكم أبناء الدعة والسعة والرفاهة فانتفى عنهم العمل لقلة الحاجة ، وضعفت فيهم أداته لكثرة البطالة ، فأصبح المخ مستويا أملس كالصحيفة ، والجسم صقيلا أملط كالديباجة ، واليد رقيقة رفافة كالزنبقة . فهم تماثيل ناطقة للغباء الأنيق ، تطعم وتنعم وتلهو على حساب الفقير الذي يعمل ولا يأكل ، والأجير الذي يشقى ولا ينام . يالله ماذنب هذا الطفل الشريد اللذي تتحامون مسه وتتفادون مرااه اذا كان القدر اختار له ذلك الاب البائس الذي يتزوج ولا يعاشر ثم يلد ولا يعول ! هل من طبيعة الحي ان يلقي افلاذ كبده مختارا في مدارج الطرق تطأها الاقدام وتتحيفها المكاره ؟ هل تستطيعون ان تجدوا لذلك اذا وقع علة غير الفقر الذي يحمل الاب في ازمات القحط والحرب على بيع بنيه واكل بناته؟. فاذا كنتم تشفقون على نعيم عيشكم من رؤية البؤس وتخشون على جمال حياتكم دمامة الفقر وتضنون بسلام وطنكم على ادواء التشرد فاقتحمو على الفقر مكامنه في اكواخ الأيامى واعشاش العجزه ثم قيدوه بالإحسان المنظم في المدارس والصدقة الجارية في الملاجئ تجدوا بعدئذ ان الدنيا جميله في كل عين وان الحياة بهيجة في كل قلب وتشعروا ان روحا عامة قد وصلت بين جميع الارواح فاصبح الشعب كله جسما حيا متالفا متكافلا تتغذى خلياته بدم واحد وتتساير نياته الى غاية واحده.[/align | |
|