الخطوات المنهجية كي نصبح شعب ثورجية؟؟؟!! (مقال هام للدكتور نبيل فاروق)

تغيير منظومة شعب بأكمله ليس أمرا مستحدثا، أو بلا سابقة تاريخية واضحة، ومعروفة..

فمع قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 بدأت حملة عنيفة لتغيير منظومة وفِكر الشعب بالقوة، عبر الإصرار على المبادئ الشيوعية، وفرضها قهرا على الجميع، وسجن واعتقال ونفي -وقتل أحيانا- كل مَن يخالفها أو يعارضها، أو يرفض تنفيذها أو اتّباعها.

ومع العنف والقهر تغيّر سلوك الشعب الروسي كله..
ولكن مع أول مواجهة، عقب إطلاق الحريات هناك -في بداية تسعينيات القرن العشرين- انهار كل هذا دفعة واحدة..
هذا لأن تغيير منظومة أي شعب لا يمكن أن يتم بالقهر أو العنف..

وعقب حركة يوليو 1952 كانت هناك محاولة مستميتة لتغيير منظومة ونمط شعب كامل، عبر تغيير المناهج الدراسية، والتوجيه الإعلامي، وسياسة الإلحاح على فرض المبادئ الجديدة..
وتغيّرت منظومة تفكير الشعب بالفعل..
ثم جاء الانفتاح الاقتصادي، في عصر الرئيس السادات، لينسف كل هذا دفعة واحدة.. ولتختل المنظومة في عنف..
هذا لأنه من المستحيل أيضا تغيير منظومة شعب بالكامل، عبر الإجبار والإلحاح فحسب..
الوسيلة الوحيدة إذن لتغيير منظومة شعب، هي الإقناع..
والهدوء..
والحكمة..
والموعظة الحسنة..

والأهم من كل هذا هو القدوة الحسنة التي يراها الناس، ويؤمنون بها، ويتفاعلون معها، ويسعون -بإرادتهم- للاقتداء بها.
هذا ما نراه واضحا مع كل دين سماوي، أتى به الخالق عزّ وجلّ..
راجع التاريخ كله، واحسبها..
لم يفرض دين قط بالقوة..
ولا بالعنف..
ولا بالقهر..
الأديان كلها أتت لتخاطب عقول الناس..
وقلوبهم..
وفطرتهم..

وعندما يحدث التغيير في هدوء وبطء، ودون استعجال النتائج، يتعمّق في كيان كل إنسان، ويتوغّل في مشاعره، وينبض مع خلاياه..
ويستقر..
وهذا هو الأهم..
لا أن تتبع نظما جديدة، تفرض عليك فرضا، بل أن تتبعها لأنك تؤمن بها، وتتفق معها، وتدرك جيّدا أنها تسعى لصالحك..
ولصالح الجميع..
بلا استثناء..
وبكل المقاييس، ينبغي أن يبدأ زرع هذا في النفوس منذ الطفولة، وقبل حتى مرحلة الحضانة، أو التعليم الأساسي، عبر سلسلة من أفلام الرسوم المتحرّكة، ذات الأحداث المثيرة والجذابة، والتي تزرع المبادئ الحسنة في أعماق الطفل، دون مباشرة، ودون أسلوب تلقيني مفتعل..

ولكي يتعلّق الطفل بتلك الأفلام لا بد وأن تحوي شخصيات جذّابة، تتفق مع روح الطفولة في أعماقه، وتجذب انتباهه، وتكون خفيفة الظل، جمة النشاط، وليست مثالية مائة في المائة، ولكن المغامرات التي تمر بها، تدفعها خلال تلك المغامرات التي لا بد وأن تكون مثيرة بالقدر الكافي، لكي تجذبه إليها، وإلى المبادئ التي تطرحها بالتالي.. وبعدها تبدأ مرحلة الدراسة الأساسية..

وفي هذه المرحلة لا يكفي أن تطرح على الطفل المناهج الدراسية التي تحوي المبادئ الصحيحة فحسب، ولكن من الضروري أيضا أن تفسح له المجال؛ لإفراغ مواهبه ونشاطاته الأخرى؛ حتى يتخلّص من أي كبت داخلي، يدفعه نحو التمرّد والعنف..

الأهم من هذا هو إعداد المدرس، المسئول عن تلك المرحلة الأساسية، والذي لا بد وأن يكون أكثر نضجا، وأكثر علما، وأكثر فهما للروح التربوية؛ إذ إنه إن لم يكن قدوة حسنة لتلاميذه، في تلك المرحلة، فهو يفسد المنظومة كلها، ويفقد الطفل الثقة في كل ما يدرسه.
والاهتمام بمعلّم المرحلة التعليمية الأساسية لا بد وأن يفوق الاهتمام بالمعلّم في جميع المراحل الأخرى؛ لأنه يضع أساس الشخصية، التي لو تكوّنت في تلك المرحلة فستبقى مع الطفل لزمن طويل تالٍ..

في نفس الوقت، لا بد من إقرار سيادة القانون في مختلف نواحي الحياة؛ لأن الطفل عندما ينضج، وقد تم زرع كل المبادئ الحسنة في كيانه، ثم يواجه مجتمعا فوضويا، لا يتعامل بالمبادئ نفسها، قد يفقد الثقة في كل ما تعلّمه، ويميل إلى اتّباع قواعد مجتمعه، وليس قواعد دراسته، حيث إن تعامله مع المجتمع تعامل دائم ومستمر، ولا ينتهي بنهاية اليوم الدراسي..

ينبغي في الوقت ذاته تخفيف المناهج الدراسية إلى حدّ كبير؛ فكل النظريات التربوية تؤكّد أن الطفل الذي يجد وقتا للعب واللهو في طفولته، هو الأهدأ نفسا، والأقدر على الإبداع والابتكار في شبابه، والقيادة في مرحلة نضجه..

هذا باختصار ما ينبغي الاهتمام به، بالنسبة لبناء شخصية تبدأ تعاملها مع الحياة، عبر منظومة جديدة، يتم زرعها في المجتمع..
ولكن ماذا عن الكبار؟!
لو نظرت حولك جيدا، فستجد أنه لدينا مشكلة كبيرة، تتمثّل فيها كل عيوب المنظومة القديمة تقريبا، والتي نسعى للتخلّص منها مع الوقت..
مشكلة المرور..

فالحركة المرورية في مصر فوضوية للغاية، على الرغم من كثرة القوانين التي تحكمها، والتي تصدر تباعا، في محاولة لأن تحكمها..
لا أحد يلتزم بقواعد المرور..
ولا أحد يحترم حقوق غيره..
ولا أحد يبالي..

تفعيل تلك القوانين العديدة، في صرامة وعدل، وتطبيقها على الجميع بلا استثناء، قادر على مكافحة ظاهرة الفوضى المرورية..
ولن يكون هذا سهلا بالتأكيد..
ولكنه سيؤتى ثمارا جيدة جدا مع الوقت..
ليس في مشكلة المرور وحدها، ولكن في احترام القانون والنظام على نحو عام..
فإذا ما اعتاد الناس احترام قوانين السير، وقبول المنظومة كلها، مع إيمانهم بأن القانون واحد للجميع، يتم تطبيقه على الكبير قبل الصغير، والقوي قبل الضعيف، سيترك هذا أثرا كبيرا في المجتمع كله، وسينعكس على احترامه للقانون بشكل عام، ومراعاته للقواعد على نحو جماعي..

وتغيير نظرة الناس إلى القانون ليست أمرا مستحيلا أو عسير المنال، على الرغم من كل الفوضى التي تراها من حولك، فهناك دول، كانت أكثر منا فوضوية، منذ أقل من ربع القرن، وهي الآن دول نحسدها على نظامها وانتظامها..
فالشعوب كالبشر، لا تولد مثالية، ولكنها تعتاد هذا مع مرور الوقت، وتحت قوانين صارمة، لا تفرق بين مواطن وآخر..
وهذه هي النقطة الأكثر أهمية وتأثيرا، في تغيير منظومة الشعوب..

المساواة التامة، في الثواب والعقاب؛ فالإنسان، أي إنسان في أية دولة، وأي زمان ومكان، يتمرّد على القوانين، أية قوانين، عندما يجد أنها متحيّزة، تطبّق عليه دون سواه، ويتميّز بها بعض الأفراد عن غيرهم، أو يملكون القدرة على تجاوزها، لمكانتهم أو علو شأن مناصبهم..

أما لو وُجد أن القانون يطبق على الجميع بلا استثناء، فهو يطيعه على نحو غريزي، ويخضع له في تلقائية واستسلام..
تغيير المنظومة إذن ليس مستحيلا..
ولكنه ليس سهلا في الوقت ذاته..
إنه يحتاج إلى الكثير من الجهد..
والكثير من الوقت..

وإلى أن نظلّ نطرح دوما السؤال على أنفسنا..
هل يمكن حقا أن نتغيّر؟!
هل؟!!!

Very Happy

» نبيل فاروق يكتب .. بينى وبينك: ما أسهل أن تنافق
» شباب وشباب (مقال جميل جدا للدكتور شريف عرفة)
» حكم واقوال للدكتور ابراهيم الفقي
» قصة التتار من البداية الي عين جالوت للدكتور راغب السرجاني
» علمنا رسول الله كيف نصبح أولياء الله